فصل: تفسير الآيات (105- 106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (100):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} [100].
{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي: رزقه وسائر نعمه على خلقه: {إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} أي: لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم. ولهذا قال سبحانه: {وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} أي: بخيلاً.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية بلغت بالمشركين، من الوصف بالشح، الغاية التي لا يبلغها الوهم، كما قاله الزمخشري.
الثاني: ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه؛ لأن المرء إما ممسك أو منفق. والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل، إما دنيوي كعوض مالي، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع، كما في النفقة على الأهل. وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة. أو هو بالنظر إلى الأغلب، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدنا في زماننا ** عن حديث المكارم

من كفى الناس شره*** فهو في جود حاتم

أفاده الشهاب.
وقال ابن كثير: إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له. كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز.
الثالث: ذكر هذه الآية إثر ما قبلها، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة، وسعة كرمه وجوده وإحسانه. كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض، كي تنجلي لهم قدرته العظمى، وسعة خزائنه الملأى، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقية ما يدعوهم إليه.
وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان، تذكيراً له بنقصه وضعفه، وإشفاقه وحرصه؛ ليعلم أنه غير مخلوق سدى، يُخلى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه. والمعنى: أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ومما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه، لضننتم بها، مما يدلكم على أنه هو مالك الملك، وأنكم مُسخرون لأمره؟! وهذه الآية كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [النساء: 53] أي: لو أن لهم نصيباً في ملك الله، لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير. وقد جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه».
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [101].
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به. وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ} الآية {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: عنها: فإنهم يعلمونها، مما لديهم من التوراة. فيظهر للمشركين صدقك، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب. لأن الأدلة إذا تظاهرت، كان ذلك أقوى وأثبت: {إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} أي: فذهب إلى فرعون وأظهر آياته، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه. فقال له فرعون ما قال. وقوله: {مَسْحُوراً} بمعنى سُحرْتَ فخولط عقلك. أو بمعنى ساحر، على النسب. أو حقيقة، وهو يناسب قلب العصا ثعباناً. وعلى الأول هو كقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].

.تفسير الآية رقم (102):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} [102].
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ} أي: يا فرعون: {مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} أي: الآيات التسع: {إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائرَ} أي: بينات مكشوفات لا سحر ولا تخيل. ولكنك معاند مكابر، ونحوه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14]، والبصائر جمع بصير بمعنى مبصرة أي: بيِّنة. أو المراد الحجج، بجعلها كأنها بصائر العقول. وتكون بمعنى عبرة: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} أي: هالكاً.

.تفسير الآيات (103- 104):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [103- 104].
{فَأَرَادَ} أي: فرعون: {أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ} أي: يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فَرَقاً منه. أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال. والضمير لموسى وقومه. و{الأرض} أرض مصر. أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين، وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} أي: فحاق به مكره، لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين، ليرجعهم إلى عبوديته، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق.
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد إغراقه: {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} وهي أرض كنعان، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها.
قال ابن كثير: في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة. وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76]. ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة، على أشهر القولين، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلماً وكرماً. كما أورث الله القوم، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل، مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 59] وقال ها هنا: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: قيام الساعة: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي: جمعاً مختلطين أنتم وعدوكم. ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم. ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى. وبيَّن اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (105- 106):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [105- 106].
{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} أي: بالحقيقة أنزلناه كتاباً من لدنا فأين تذهبون؟ كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي: متلبساً بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه. وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل. كقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه} [فصلت: 42]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي: نزلناه مفرقاً منجماً. وقرئ بالتشديد. والقراءتان بمعنى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي: على مهل وتؤدة وتثبت، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} أي: من لدنَّا على حسب الأحوال والمصالح.

.تفسير الآيات (107- 109):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [107- 109].
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
قال الزمخشري: أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه. وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل، وهم العلماء الذين قرأوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم. فإذا تلي عليهم خروا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه. وهو المراد بالوعد في قوله: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}.
فإن قلت: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} تعليل لماذا؟
قلت: يجوز أن يكون تعليلاً لقوله: {آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ}، وأن يكون تعليلاً لـ: {قل} على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه. كأنه قيل: تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأول: إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم.
فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟
قلت: السقوط على الوجه. وإنما ذكر الذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن.
فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى، إذا قلت خرَّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرَّ لذقنه ولوجهه؟ قال:
فخر صريعا لليدين وللفم

قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور. واختصه به لأن اللام للاختصاص.
فإن قلت: لِمَ كرر يخرون للأذقان؟
قلت: لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين. انتهى.
تنبيه:
دلَّ نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين، على استحباب البكاء والتخشع. فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده، يلزم الاتصاف بها. كما أن ما ذم منها من مقته منهم، يجب اجتنابه.
وقد عدَّ الإمام الغزالي في الإحياء من آداب ظاهر التلاوة البكاء. قال: البكاء مستحب مع القراءة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا». وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه. وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن. فمن الحزن ينشأ البكاء، ووجه إحضار الحزن، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود. ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره، فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حَزْن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية، فليبك على فقد الحزن والبكاء. فإن ذلك أعظم المصائب. انتهى.
وذكر السيوطي في الإكليل أن الشافعي استدل بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبَّنَا} الآية، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (110- 111):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [110- 111].
{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ} ردٌّ لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن، وإذْنٌ بتسميته بذلك. أي: سموه بهذا الاسم أو بهذا. و{أو} للتخيير {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: أي: هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن. وقد وضع موضعه قوله: {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه؛ إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين. فأقيم فيه دليل الجواب مقامه، وهو أبلغ.
ومعنى كونها أحسن الأسماء، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم. وهذه الآية كآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي: بقراءة صلاتك. بتقدير مضاف. أو تسمية القراءة صلاة؛ لكونها من أهم أركانها. كما تسمى الصلاة ركعة: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي: تُسرّ وتخفي: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي: بين الجهر والمخافتة، أمراً وسطاً. فإن خير الأمور أوساطها.
قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالسبيل، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون، ويوصلهم إلى المطلوب.
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بقراءته. فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يتوسط في صوته كيلا يسمع المشركون، وليبلغ من خلفه قراءته.
ثم بيَّن سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} أي: لم يكن علة لموجود من جنسه؛ لضرورة كون المعلول محتاجاً إليه، ممكناً بالذات، معدوماً بالحقيقة. فكيف يكون من جنس الموجود حقاً، الواجب بذاته من جميع الوجوه؟: {وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي: من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك. وإلا لكان مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الآخر، لابد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة. فلزم تركبهما، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين. وأيضاً فإن لم يستقلا بالتأثير، لم يكن أحدهما إلهاً. وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه، فلا شريك له. وإن استقلا جميعاً؛ لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد، إن فعلا معاً. وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر، رضي بفعله أو لم يرض. أفاده القاشاني.
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ} أي: ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به. أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به، ليدفعها بموالاته: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي: عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيماً جليلاً.
تم ما علقناه على هذه السورة الكريمة، ضحوة السبت في 26 شوال سنة 1323 في سدة جامع السنانية بدمشق الشام. يسر الله لنا بعونه الإتمام، والحمد لله وحده.